سياسة

مجتمع

اراء

الحفر الأركيولوجي في الأعماق

بقلم:هاشم صالح 


لا أعرف لماذا تهب عليّ نسمة من الحزن الهادئ والعميق في نهاية كل عام. ولكنه ليس حزنا تعيسا ولا أسود. على العكس انه حزن يشبه الفرح. وقد تكرر على مدار ثلاثين سنة من اقامتي في العاصمة الفرنسية سابقا. فكل ما حولك هناك في باريس كان يدعو للبهجة والابتسام. الزينات في الشوارع، والليل يتحول الى نهار من كثرة الأضواء ، والشانزيلزيه كأنه في عرس! والناس يتراكضون في كل الاتجاهات بحثا عن المشتريات من أجل التحضير لسهرة الميلاد. وأنت كالأطرش في الزفة! صحيح أن ذلك ينعكس ايجابا على الروح. ولكن في زحمة كل هذه الأفراح كنت أشعر بنوع من الحزن العامر الذي يغمرني . انه يشبه البحر المتلاطم الأمواج من كثرة العمق والاتساع والاحساس بهشاشة الاشياء، أو فراغ الاشياء، لا فرق..ولا تستطيع كل أنوار الحضارة أن تنتشلني مما أنا فيه. ولا أريد أصلا أن أُنتشل!

هل لأني أغادر عاما كاملا أشعر بالحزن؟ على العكس اني أنفضه عن كاهلي نفضا وكأني انزّل حملا ثقيلا عن ظهري، بل وأشعر بالانفراج، والخفة وأتنفس الصعداء عندما يموت العام القديم ويولد العام الجديد. أشعر وكأني بعثت من جديد في مستهل كل عام. كيف؟ لا أعرف. انه وهم حتما، ولكنه جميل ومريح.أليس الوهم أجمل من الواقع؟ أليس الحب ذاته وهم في وهم، وأي وهم!



ولكن هذه المرة لا أشعر باني أودع عاما كاملا فقط، وانما عمرا او قل مرحلة بأسرها من مراحل العمر. وأحيانا يتوقف المرء لكي يتساءل: ماذا فعلت، وماذا لم افعل؟ اين أنا؟ وهل تعلمت شيئا بعد كل هذا السفر في الداخل والخارج؟ ام أني تحولت الى صخرة صماء لم تعد تحس بشيء بعد مرور الايام والسنوات؟ .. ثم بعد التجارب والمحن، والزلازل ايضا! وهي زلازل ليست شخصية فقط وانما جماعية.لأقل بأني أعاني من زلزالين: زلزال الطفولة الكابوسية وزلزال سوريا. وهما مترابطان بشكل محكم. هل كتب علي أن أعيش حياة كابوسية من البداية الى النهاية؟ والله لا أستطيع أن أنظر الى الخلف، الى طفولتي، لأني لا أرى فيها نقطة ضوء واحدة. يغطيها شبح من السواد بسبب فاجعة أمي وما تلاها. وما تلاها كان أخطر: زواج مشبوه ومتسرع للشيخ الجليل من امرأة سافلة. ولا أستطيع أن أشاهد التلفزيون لكيلا أرى فاجعة سوريا الكبرى ومعاناة السوريين وبخاصة الأطفال والنساء الحرائر اللواتي أصبحن سبايا معروضات للبيع! وحلب تحت الأنقاض. والجنون يستعر.. والأفق مسدود. في كلتا الحالتين أنا مدان بالهروب الى الأمام باستمرار.لا أستطيع أن أواجه فجيعتين دفعة واحدة!



في الواقع ان السفر في متاهات الذات لا يقل أهمية عن السفر في العالم الخارجي والبلدان. الداخل متاهة، قارة سحيقة، وأبعاد. وقد يغوص الانسان ويغوص دون ان يصل الى اي شيء، الى أي قعر.. فيرجع عندئذ من تلك السفرة الطويلة بخفي حنين. يرجع خائبا، حسيرا، محبطا. ثم يكرر المحاولة مرة اخرى كسيزيف، ولكن دون جدوى. وقد كان سيزيف صديقي طيلة كل تلك السنوات العجاف.



وأحيانا يعتقد الانسان أن السفر في الخارج يلهيه، ولو للحظة عن هموم الداخل واضطراباته المستعرة او يساعده على حلّ عقدة الداخل. وهذا صحيح. فأنا شخصيا لو لم أسافر الى اوروبا، وفرنسا تحديدا، لما تقدمت خطوة واحدة في اسكتشاف متاهات الذات. كان يلزمك بلد محرر كليا من كوابيس القرون الوسطى اللاهوتية لكي تستطيع أن تواجه وحوشك الداخلية!



كان ينبغي عليّ ان أخرج من نفسي بأي شكل. ولم يكن هذا الخروج ممكنا الا بتغيير المكان والجغرافيا، الا بالابتعاد والقطيعة والهجران. وحتى الآن، أي بعد أربعين سنة تقريبا، لم أشبع ابتعادا وقطيعة وهجرانا. هل كنت ملدوغا الى مثل هذا الحد؟ أنا نفسي مندهش ولا أكاد أصدق. هل كانت طفولتي كابوسية الى مثل هذا الحد؟ طفولتي؟ الوجه الاجرامي القذر لامرأة الأب. الوجه الموحش والكئيب للأب ذاته: وجه القرون الوسطى المظلمات. وقد كان بيني وبينه من الحب شيء عظيم. ولكن لن أغفر له أبدا فعلته تلك! وحتى لو أردت فلن أستطيع. بيني وبينه امرأته. بيني وبينه جريمته. طفولتي؟ الصراخ والعويل والانسداد التاريخي وليالي الشتاء الطويلة. طفولتي؟ اللاهوت والكهنوت الأسود! كيف يمكن أن أتحرر من كل ذلك؟ ألف سنة لا تكفي لتعزيل تراكماتي، لتبديد ظلماتي الداخلية (1).



لو لم أسافر في الزمان والمكان لما حققت اللقاءات الأساسية في حياتي، ولما أتيح لي ان أنخرط في مغامرات فكرية وحياتية عديدة. لو لم أسافر لما أتيح لي ان أتقن لغة أجنبية حديثة تمكنني من الاطلاع على النصوص الكبرى التي أضاءت لي مجاهيل الطريق وسط الظلام الدامس والقلق القاتل الذي حملته معي من سوريا، من ذلك البيت المشؤوم. ما كان بامكاني، لو بقيت محصورا داخل الاطار السوري واللغة العربية، أن اطلع على مئات المراجع والكتب.ما كان سيتاح لي الانغماس في النصوص الكبرى لجان جاك روسو، او كانط، او ديكارت،أو هيغل، أو فولتير، او نيتشه، او بودلير، او رامبو، او سبينوزا، او دوستويفسكي، او ميشيل فوكو، او عشرات غيرهم.



لو بقيت في الداخل ـ اقصد الداخل الجغرافي هنا ـ لعشت ومت دون ان أفهم شيئا، ودون ان أتقدم خطوة واحدة الى الامام. بفضل هؤلاء الكبار الذين أمضيت عمري في قراءة نصوصهم أتيح لي أن اقترب ولو قليلا من مجاهيل النفس المرعبة والانغلاقات الداخلية. بل وتجرأت احيانا على النظر من ثقب الباب! لا أزعم باني حققت خرقا كبيرا ـ وقد كان أمنيتي ـ ولكني اقتربت من تلك المنطقة الخطرة، تلك المنطقة العمياء المعتمة التي لا تنفتح الا للكبار الذين ذكرتهم او أمثالهم. لقد تجرأت على ان اقترب منها حتى مسافة معينة. بعدئذ توقفت وأحجمت ونكصت على أعقابي صاغرا خوفا من عواقب المغامرة الخطرة وحفاظا على مواقعي الخلفية. قلت بيني وبين نفسي: اذا ما غامرت اكثر او تهورت فربما خسرت حتى هذه المواقع الخلفية التي لم تستطع التوصل اليها الا بعد جهد جهيد ومحاولات سيزيفية مضنية.



لقد عزَّلت الطريق في السنوات الماضية، أقصد في ربع القرن الماضي. عزّلت الداخل تعزيلا لكي أرى بصيص نور وسط ظلام حالك.أقصد ظلامياتي الداخلية بالدرجة الأولى. لو بقيت في سوريا لما استطعت أن أقترب منها لحظة واحدة. لو لم أخرج، لو لم تتح لي تلك الفرصة الذهبية للابتعاد عن منطقة الذات، لأطبقت عليّ كليا ودمرتني. لو لم تتح لي قراءة هذه النصوص التحريرية، لما استطعت ان اعزّل شيئا، ولربما خنقتني تلك التراكمات وقضت عليّ.كنت مهددا على طول الخط، وعلى حافة الهاوية كتبت نصوصي..



ما الذي استفدته من هؤلاء الكبار الذين ذكرتهم او لم أذكرهم؟ تعلمت شيئا واحدا: وهو ان النزول الى الطبقات السفلى للجحيم، اي الغوص في أعماق الداخل ومتاهات الذات يشكل تجربة مرعبة بدون شك، ولكنها أعظم تجربة يتاح لمخلوق أن يعيشها على وجه الأرض. انها أعظم مغامرة في المجهول وأرقى مغامرة بشرط أن تخرج منها سالما! عندما يقول رامبو في ديوانه الشهير «فصل في الجحيم»: «آه، لقد أكلتُها ضربة كبيرة على رأسي!»، فإنه يقصد ان التجربة كانت قاتلة، مريرة (يلاحظ القارئ اني ترجمت عبارته بالعامية تقريبا). ولكن لولا هذه التجربة الاحتراقية – والاختراقية- لما كان هذا الديوان المؤسس للحداثة الشعرية الفرنسية قد ظهر. كان ينبغي ان يدفع رامبو الثمن باهظا لكي يرى ما لا يرى بالعين المجردة.كان ينبغي أن يحترق بأتون المعاناة لكي يصل، لكي يحدث خرقا في أعماق الذات ومجاهيلها المعتمة.باختصار شديد: لكي يتقدم خطوة واحدة الى الأمام كان ينبغي ان يموت ألف موتة..ولذلك يقول أيضا في نفس الديوان “بأن المعركة مع الذات أخطر من معارك الرجال”: أي المعركة مع الداخل أخطر من المعركة مع الخارج. والشيء ذاته يمكن ان يقال عن دوستويفسكي وتجربة النزول الى الطبقات السفلية بعد الحكم عليه بالاعدام، ثم العفو في آخر لحظة،ثم النفي والأشغال الشاقة في سيبيريا. بعدئذ اصبح دوستويفسكي دوستويفسكي وخرج منصهرا، مصقولا.مهذبا. وكانت الروايات العظام: الجريمة والعقاب، الممسوسون، الأخوة كرامازوف، الخ.



في رحلتي الشاقة والعسيرة «داخليا» كان لي هؤلاء الكبار عونا وسندا، لكن ينبغي الاعتراف بأن قراءة جان جاك روسو كانت هي الحاسمة. فقد علمني شيئا آخر لا يشترى حتى بالذهب. عندما يقول هذه العبارة في اكثر من موضع: «ولذا قررت ان أضحي بنفسي من اجل الحقيقة»، فإنه يرتفع الى الذروة العليا التي لا ذروة بعدها لمفكر . وهنا ساعدني روسو «خارجيا» اذا جاز التعبير، وجاء في الوقت المناسب. فبعد معركة الداخل اندلعت معركة الخارج. وقد كانت هذه الأخيرة شرسة، ضارية، بل وكادت أن تودي بي. عندئذ علمني جان جاك روسو ان أثبت على الحق والمبدأ وان أدفع الثمن راضيا بعد ان كنت أتقبله مكرها. ثم علمني روسو شيئا آخر: وهو ان كل أمجاد الدنيا وبهرجاتها وأموالها لا تساوي شيئا أمام لحظة صدق مع الذات. لقد تعلمت منه أن أزهد بكل شيء، بالوجاهات والمقامات، بالمظاهر الخادعة والاستعراضات. وقال لي: اياك، ثم اياك أن تقترب مما يترامى عليه الآخرون تراميا. فالشهرة والجوائز والأمجاد الشخصية، كلها أشياء فارغة لا معنى لها. انها مقتل المثقفين! الشيء الوحيد الذي له معنى: هو مقاومة محاولات التلويث والافساد والتوريط. فاذا استطعت نجوت!..يقول: «لما رأيت الفساد عاما شاملا في عصري قررت أن أنعزل عنه وأن أعيش في الفقر والاستقلالية“.كم نزلت علي هذه الكلمات بردا وسلاما! ثم أكد لي نفس الدرس تلميذه من هذه الناحية الأخلاقية: ايمانويل كانط. وفهمت منهما ان العلم بدون أخلاق او ضمير لا يساوي قشرة بصلة! وهذا ما قاله رابليه قبلهما:”علم بلا ضمير خراب للروح“. وهنا تكمن علة الحضارة الغربية وداؤها العضال.فالتقدم الأخلاقي لم يكن على مستوى التقدم التكنولوجي. هل كان ممكنا أن أفهم كل هذه الاشياء وأنا في قريتي الصغيرة،النكرة المجهولة، دون ان أتغرَّب وأسافر، ودون ان أتعذب وادخل الجامعات وأركض وراء الشهادات؟ ربما. ولكن فهم هذه الحقائق المبدئية بعد ان تكون قد قمت بدورة حول العالم - وحول نفسك! - أهم بكثير من تلقيها فقط من بطون الكتب.. فكلما كان ثمن القناعة التي توصلت اليها كبيرا كانت مصداقيتها أكبر، ورسوخها في النفس أقوى.



أخيرا عودة الى تلك”الشمس الغائبة" التي لا أزال أطمع بعودتها يوما ما، بلقائها.كيف سيكون هذا اللقاء يا ترى؟ لاأعرف. أي شكل سيتخذ؟ لا أعرف.اني أتمناه وأخشاه في ذات الوقت. ماذا ستقول لي؟ وهل أنا قادر على تحمل وطأة الحدث؟ هل أنا قادر على مواجهة سيل الذكريات العارمة الذي ستنفجر في وجهي دفعة واحدة بعد طول احتقان؟ انها ذكريات 13 سنة يا جماعة! ليست يوما أو يومين! كنز الكنوز! أنا أغنى رجل في العالم دون أن أدري! هل يعقل أن أُحرم منها الى الأبد؟ كل ذكرياتي معها مطموسة تحت الأنقاض.لقد عُوقبت وحُرمت منها طيلة الخمسين سنة الفائتة لسبب أجهله.لقد محيت كليا من ذاكرتي. كل شريط حياتي معها ممحو تماما وممنوع عليّ منعا باتا. كل شيء يحصل وكأنها لم توجد قط! ولكن كيف ولدت؟من أين جئت؟ هل هي أمي أم ليست أمي؟ هل أنا مقطوع من شجرة؟ ممنوع عليّ أن أتذكر أي لحظة معها. من يتصور ذلك؟ والآن لا هم لي الا استرجاع الفردوس المفقود. أبيع الدنيا بتلك الذكريات. لا هم لي الا التعرف على تلك المخلوقة من جديد! عندما أقول لهم: عندي موعد مع انسانة توفيت قبل نصف قرن، يقولون: هذا جنون!هذا عبث،محال.بم يهذي هذا الشخص؟ ولكن هذه هي الحقيقة بعينها. أقسم بالله أبيع الدنيا كلها بذلك الموعد. وأراهن بأنها ستبعث من قبرها حية كما كانت اذا ما حنّ الله علي. وسوف أتعرف عليها لأول مرة أو هكذا يخيل لي. سوف أسمع نبرة صوتها لأول مرة عندما كانت توبخني أو تحبني أو تأخذني معها الى الحقول والمراعي. هل ستنفجر ذكرياتها كالبركان في وجهي؟ هل ستعصف بي عصفا؟ لحظة الحقيقة معها أزفت، اقتربت، كادت. ويلٌ لي! أحس بذلك، أشعر بحلاوة ذلك في قلبي. أنها قادمة لا محالة.أكاد أراها قادمة. انها تحضرني للقائها تدريجيا لكيلا تصعقني اذا ما تجلت لي دفعة واحدة. لا تريد أن تقتلني! حتى الآن تكتفي بأن تحوم، وتحوم حولي. انها تناكفني،تداعبني،تحضرني لليوم الموعود.وسوف تكشف عن وجهها في لحظة ما. أنا واثق من ذلك. في اللحظة المناسبة سوف ترفع الستار عن ذلك الوجه المقدس.وسوف أراها حية كما كانت.وسوف تقول لي أشياء وأشياء..عالم بأسره سوف ينفجر في وجهي. هل سأكون على مستوى المواجهة، على قدر المقام؟ ماذا سأفعل وقتها،ماذا سيحصل لي؟ انها لحظة الكشف الأعظم والتجلي. انها أكبر هدية في التاريخ.منذ نصف قرن وأنا أنتظر هذه اللحظة. من يتخيل: عندي موعد(حقيقي!) مع انسانة توفيت قبل خمسين سنة.وهو بالنسبة لي أكبر موعد وأحلى موعد في حياتي!


أخيرا تجيئين!
*
اذن أنت السبب..اذن أنت أنت..
لماذا لم تقولي وكيف اختفيت؟
ثلاثين عاما وأنا أبحث عنك دون أن أراك
ثلاثين عاما وأنا أدور حواليك دون أن أراك
ثلاثين عاما وأنا أنبش الأرض من تحتك دون أن أراك
ثلاثين عاما وأنا أراك
دون أن أراك :
أنت الحقيقة الوحيدة
حقيقة الحقائق
حبيبة الحبيبات


*
اذن أنت أنت؟
لماذا لم تقولي وكيف اختفيت؟
ثلاثين عاما وأنت تغيبين
تديرين
ظهرك
وجهك
صوتك
ثلاثين عاما
وأنت تضنّين
سأقبل منك يدين
ورجلين
وتحت التراب
وفوق التراب
سأهرع نحوك
سألقي بنفسي
على قدميك


*
سأهرب منك اليك
فهل تغفرين؟
وهل تسمحين؟
أريد كلاما
ثلاثين عاما


*


سأهرب منك اليك
سأبكي طويلا على ساعديك
أقبل منك يدين
ورجلين
أقبل أرضا مشيت عليها
وأرضا تضمك تحت ثراها
ونورا يطل من الغيب..


*
سأرفع اسمك للشمس
وأخفض اسما يموت
سأعمر فيك البيوت


*


 


أخيرا تجيئين
لماذا، لماذا تأخرت؟
وكيف اهتديت!


هامش:


1- قد يتساءل أحدهم مستغربا: ولكن ماذا فعلت بالسنوات الثلاث عشرة الأولى من طفولتك؟ ماذا فعلت بتلك الاشراقة الشمسية في ظلال أمك؟ وأجيب هنا تكمن المشكلة بالضبط.لا أستطيع التوصل اليها بتاتا.انها الفردوس المفقود. لا أستطيع أن ارى وجه أمي ولا أن أستذكره بأي شكل رغم أني عشت معها 13 سنة تقريبا! وكانت أول وجه أستيقظ عليه حتما كل صباح كبقية الأطفال.انها جنتي،حقيقتي. ولكن لا أستطيع التوصل اليها.كلما حاولت تبخرت أو هربت من بين أصابعي.انها حتما “حردانة” ولن تغفر لي ما فعلت أو بالأحرى ما لم أفعل. لماذا لم أنقذها عندما نشب الحريق في البيت؟ لماذا هربت؟ في الواقع أني أقدمت ثم أحجمت خوفا من سياط النبران المشتعلة. كان حدثا صاعقا وغير متوقع على الاطلاق. ولذلك ذهلت كليا وخرجت عن طوري وتسمرت في أرضي ثم هربت كليا من البيت حتى جاء رجال القرية وسيطروا على النار. وشاءت الصدفة أن أكون الوحيد في البيت. هذا هو الحدث الذي صعقني، أسس وجودي. وقد آن الأوان للكشف عنه بعد صمت خمسين سنة!و بالتالي فكل ما أفعله من حفر أركيولوجي في الأعماق ليس الا محاولة سيزيفية للاقتراب منها، لرؤيتها، لرؤية وجهها الساطع كالشمس.ولكنها تمتنع علي كليا ولا تعطي نفسها أبدا. وربما لو أعطت نفسها لصعقت في أرضي وقتلت على الفور.أو لربما نجوت وفزت فوزا عظيما كما حصل للوثر عندما جاءته اللحظة، لحظة الكشف الأعظم، فقال عبارته الشهيرة: “شعرت وكأن أبواب الجنة فتحت لي على مصراعيها”..وهذا هو الأرجح.ولكن ليس كل الناس مارتن لوثر!


في نهاية المطاف أعرف أني لن أخرج من القصة قبل أن أتصالح معها،قبل أن ترضى علي..ولكن ألا أستحق ذلك بعد خمسين سنة عذاب؟
متى ستتفضل سيادتها وتغفر لي جريمتي؟
أضيف بأنها ترفض أن تتجلى لي الا من وراء حجاب.ولو تجلت،لو كشفت عن وجهها،لأضاءت بومضة واحدة عتمات عتماتي.ولكني أحس أحيانا وعلى غير موعد بحضورها الاستثنائي المنعش للروح. أشعر بوجودها فجأة في مكان ما في الغرفة،انها تحوم حولي،لكأنها تناوشني،تريد أن تسلم علي.. فأتوقف عن العمل فورا لكي أنتظرها تجيء من تلقاء ذاتها دون أن تجيء فعلا.وأحيانا تقترب أكثر من اللزوم،تقترب الى أقصى حد ممكن،فأستسلم عندئذ وأغيب عن الوعي تقريبا،وأعيش أجمل لحظات حياتي.ولكنها للأسف لحظات لا تدوم الا ثوان...ولكنها ثوان تساوي الدهور! انها غياب أقوى من كل حضور،أو حضور أقوى من كل غياب...




.