سياسة

مجتمع

اراء

التّكفير والمكفّرون


بقلم: السيد التوي 
 تظهر في المفاصل التّاريخيّة لأمّة ما مصطلحات متنوّعة يمكن من خلالها أن نفهم طبيعة المرحلة ومآزقها، ولعلّ مصطلح التّكفير هو أحد المصطلحات الأكثر أهميّة في الفترة الرّاهنة، لأنّه قد خرج من إطاره العقدي ليصبح لصيقا بكلّ ممارسة سياسيّة أو إيديولوجيّة، ولئن كان هذا الخروج واقعا منذ ظهور حركة النّهضة العربية أي لحظة تعدّد طرائق تشخيص مشاكل الأمة والحلول الكفيلة بتجاوزها، فإنّه لم يرتق ليكون سمة مميّزة للمرحلة كما هو الشأن بالنّسبة إلى ما تعيشه الأمّة من تحوّلات، أطلق عليها البعض في إطار الدّعاية أو استجابة لمقتضيات الواقع السّياسي ثورة.

 ويتّصل هذا المصطلح بمصطلحات أخرى مثل الغلوّ والتّحريف والرّجعيّة والإرهاب، فهي تصدر عن جهة تمكّنت أو متمكّنة أو في طور التّمكّن تدعي لنفسها أنّها تمتلك الحقيقة المتطابقة مع العقل والمؤدّية إلى الخلاص، ولا يختلف الأمر في هذا السياق بين الحقيقة الدينيّة أو السياسيّة أو الإيديولوجيّة، وتشترك هذه المصطلحات أيضا في كونها تزداد رسوخا كلما تجمّد الفكر وانكفأ على نفسه، أو كلّما توطّن الاستعمار والهيمنة، والأمثلة على ذلك عديدة، فدائرة الغلوّ في الفكر الإسلاميّ كانت تتّسع بالقدر الذي ينحسر فيه الاجتهاد، ولقد تضاعف محيطها بشكل خرافيّ مع الحركة الوهابية وما تفرّع عنها إذ أصبحت كلّ قراءة مخالفة للإسلام غلوّا. أمّا الماركسيّة فقد تواتر مصطلح التّحريف فيها بانتشار الفهم الكتبيّ لها وتحوّلها إلى عقيدة راسخة خالية من روح التّطوّر، في حين انتشر مصطلح الإرهاب في مرحلة هيمن فيها الاستعمار وتغوّل حتى أضحى يرى النّضال من أجل الحرية وتقرير المصير أو الكفاح من أجل العدالة الاجتماعيّة خروجا عن الشرعيّة

 وينشد المجتمع المدني ّ أن تضمحلّ هذه المصطلحات وتصير مجرّد شعارات جوفاء كما يسعى إلى أن يوسّع أفق الحوار، ويؤسس لمبدإ حقّ الاختلاف، متجاوزا بذلك منطق الحقيقة الواحدة والمطلقة. لكن ما هو المعيار الحقيقي الذي يجعلنا نقر بأن هذا المسلك في إدارة الحوار بين الأطراف السياسية والدينية والإيديولوجية هو المقبول، ألا يُعَدُّ ذلك ضربا من الوصاية فما هو حقيقي ومطابق للعقل والمنطق عندنا اليوم قد يصبح في المستقبل غلوّا وتطرّفا، أليس الجهة المتمكّنة هي المحدّدة؟

 مثل هذه الأسئلة تحيلنا إلى توضيح أمر مهم، فمختلف أنواع التكفير إنما تنهض على مصادرة وهي امتلاك الحقيقة، كما أنها تستند في ضبطها لهذه الحقيقة على اختصار الإنسان في بعد واحد متعال عن التاريخ وهو ما لا يدعيه أصحاب مقولة المجتمع المدني، فالحقيقة عندهم نسبية أبدا، أمّا الإنسان في تصورهم فمتعدد الأبعاد، إلا أنّ مثل هده المبادئ لا تعني غياب الأساس المتين، المشترك بين البشر جميعهم والمفضي إلى تحقيق سعادتهم، والمتمثل في تيسير طرائق التعايش بينهم في كنف المحبة والسلام وتحويل صراعهم مع بعضهم إلى الصراع مع الطبيعة لتطويعها واستخراج خيراتها، والتخلص من مختلف أشكال الوهم والاستيلاب التي توطدت عبر التاريخ.

 ومهما يكن الأمر فالتكفير في كل الحالات هو إقصاء للآخر متبوعا بعنف مادي ورمزي، ولا يمكن في حضوره أن نتحدث عن ديمقراطية أو حرية أو دولة المؤسسات، وإذا كان في مجال الدين يخرج المرء من الفرقة الناجية فهو في مجال الإيديوليجيا والسياسة يدخل في خانة التخوين والتجريم، وفي كلا الوجهين شطب للآخر ومصادرة لرأيه، وتكتمل مأساة التكفير في تحالف الديني والسياسي فيصطبغ الاختلاف في مجال السياسة بمنطق ديني فيصبح المعارض كافرا خارجا عن الأمة، يستوجب إن بلغ الحد قتله، وينهض بهذه المسؤولية رجال الدين فيتأولون النصوص المقدسة بما يتقاطع مع مصلحة السلطان.

إننا نستطيع أن نحسم الاختلاف السياسي الإيديولوجي من طريق التجربة، لأننا على ضوئها يمكن أن نعدل الأوتار ونتبين مواطن الضعف والوهن أو نضبط البدائل، لكننا لا نستطيع أن نحسم الخلافات الدينية وما يمكن أن يدرج في إطارها نظرا لطابعها المفارق، فهل يمكن مثلا أن يلتقي الشيعة والسنة مهما كانت الحجج دامغة لصالح أحدهما ، لكننا في المقابل نستطيع أن نقول إنّ التّجربة الاشتراكية في الاتحاد السّوفياتي تحتاج مراجعة وذلك استنادا إلى قراءة موضوعية لهذه التجربة، لذلك فإن تدخل الديني والسياسي يفضي إلى تقديس قراءة معينة للدّين يمثل الخروج عنها مروقا عن الدّين.

 والواقع أن ما نلاحظه في الدول التي شهدت انتفاضات أدت إلى رحيل هرم السّلطة، وخاصة تونس ومصر، يؤكد جانبا كبيرا مما أسلفنا، فالتيارات اليسارية أو اليمينية رغم ادعائها أنها قد تجاوزت منطق الإقصاء مازالت تستخدم مصطلحات تدور في فلك التّكفير سواء مع نظرائها أو مع الخصوم الإيديولوجيين لها، فاليساري الراديكالي يكفر اليساري الذي ينحو منحى مخالفا له من منظور كونه يسير في ركاب البورجوازية ويتذيل لها مثلما يكفر اليميني باعتباره رجعيّا يجعل من المستقبل وراء ظهره، واليميني المنعوت بالتطرف بدوره يكفر اليمين المعتدل ويتهمه بالانحراف عن الأصل وهي الشريعة، والمنتصبون أوصياء على انتفاضة لم ينجزوها يكفرون غيرهم سياسيا ويجتهدون لإزاحتهم من الطريق، حلقات متعددة رابطها الوحيد هو التكفير وما يتبعه من تخوين إقصاء وعنف.

وقد بلغنا في التكفير حدّا بعيدا، وخصوصا عندما تداخل الدّيني بالسّياسي وامتزجا مع رغبة غير مسبوقة في التمكّن من السّلطة، فلقد أضحى أيّ اختلاف في الرؤية الاقتصادية أو السياسية يُتَرْجَمُ إلى مقولات تكفيرية: أزلام النظام، أعداء الهوية، الكفرة، تذاع أمام الجماهير التي على نقاوتها غير قادرة على التمييز بين السياسي والديني، وحينها يكون العنف، والحكم نفسه ينطبق على المعارضة ولو بأقل حدة لأن أصواتها لا تصل إلى الجماهير بحكم خلوها من البعد المثير وهو الدين فهي تكفر السلطة وترى في كل ما تأتيه ضربا من العمالة وتحاول أن تسلط الضوء على القاتم في تجربتها، ويمكن أن نسحب هذا التحليل على المشهد السياسي برمته مع اختلافات قليلة، ولعل الأحداث التي جدت أما مقر الاتحاد واستتباعاتها خير دليل على ذلك فكل فريق يقصي الآخر وينتصب وصيا عليه وراعيا للثورة، وقد كان من أحد أنصار الفريقين أن توسّل بالمساجد فانبرى يحرم أشياء ويخلل أخرى، في حين طفق آخر يدعو إلى الثورة من جديد، ولم يفهم أحد من الفريقين أنه ثمة ثوابت وطنية تسقط أمامها كل الألوان والميولات، ولا تقبل المزايدة.

ومن المعقول في هذا السياق الحديث عمّا هو خطير وما هو أكثر خطورة ، فالتكفير السياسي والإيديولوجي بالتخوين والتجريم والتقاط العيوب خطير يكشف عن رؤية ضيقة مهما كانت ثاقبة، والتكفير باستعمال الدين هو الأخطر لأنه من شأنه أن يؤدّي إلى العنف والإقصاء، صحيح أن السياسة فن يباح فيه كل شيء من أجل الظفر بما نريد، لكن للسياسة أدبياتها فاستعمال الدين وفضاءاته وقراءاته قراءة تتسوّل الجماهير وعطفها سلوك بعيد عن الديمقراطية التي يتحرك الكل تحت جناحيْها إن اختيارا أو اضطرارا.

 وقد أدّى التكفير إلى تجييش الجماهير في صفّين: صفّ موال للحكومة مستعدّ أن يجعل من الشيطان ملاكا شرط أن يدلّل على سلامة موقفها وتتفنّن هذه الجهة في كيْل التّهم للمعارضة معتبرا إيّاها تكيد للشّعب وتسعى إلى إنتاج نموذج اجتماعي مرفوض، وصفّ مناوئ لا يقل ّبراعة في التخوين والتجريم حتى أضحى عندهم كل ما يأتيه الغير مؤامرة ضدّ الشعب وخدمة للإمبريالية ووكلائها. وكلا الصفّين يرى في الإعلام خائنا خوّانا تحرّكه أياد خفية تمكر بالشعب وتغبطه في " الثورة " التي أنجزها، وبين هذا وذاك تضيع الحقيقة التي يمكن أن تكون في حوزة أحدهما أو موزعة بينهما.

 لكنّ النهار لا يحتاج إلى دليل، فكلّ من يقف ضدّ الحرّية والعدالة الاجتماعية مهما كانت الإيديولوجية التي يتلحّف بها هو الذين يجب أن يُدان، ولن يكون ذلك إلا بخطاب رصين بعيد عن الانفعال والتّوتّر، ولا يمكن أن ينهض بهذه المهمّة سوى المثقّف بالألف واللام، ويتمثل جوهر هذه الإدانة في فضح المتورّطين في السمسرة بأحلام هذا الشعب ومستقبله، والحجّة هي الفيصل في بيان الحقّ، أما باقي الوسائل الرخيصة فسيعرّيها الزّمن، فللشعوب ذاكرة لا ترحم، لكن هيهات الأمر فبين المثقف والشعب جدار كبير بدأ بناؤه منذ فجر الاستبداد في تونس الحديثة ويواصل تشييده الآن ممثلو الاستعمار، آملين في أن يبلغ عنان السماء.

 وليس هناك من شيء يقينا سهام التعصّب والشّطب غير الديمقراطية فهي آخر ما توصل إليها لإنسان في تنظيم العلاقات بين البشر وضمان السلم بينهم كما أنّها تجبرنا على التّحاور وتفرض علينا الأسس التي يجب أن نلتزم بها وهي أسس غايتها الإنسان أولا وآخرا، والديمقراطية ليست مطيّة نركب عليها لنصل إل مبتغانا ثم نذبحها في نهاية الرحلة، إنّها فضاء يخوّل أن تتنافس أفكار مختلفة غايتها سعادة الإنسان.


 ولئن فشلت الدّيمقراطية في الغرب في الكثير من المواطن فإنّها تبقي الإمكانيّة المتاحة للقوى التي تسعى إلى تحرير الإنسان من العبودية والضرورة العمياء، وعلى مختلف الإيديولوجيات أن تعدل ساعاتها الفكرية على ذلك قبل أن يد يسحقها التاريخ.

.